الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولا أبو بكر ولا عمر فإن قال قائل إذا كان عندك أنها آية من القرآن في موضعها فالواجب الجهر بها كالجهر بالقراءة في الصلوات التي يجهر فيها بالقرآن إذ ليس في الأصول الجهر ببعض القراءة دون بعض في ركعة واحدة قيل له إذا لم تكن من فاتحة الكتاب على ما بينا وإنما هي على وجه الابتداء بها تبركا جاز أن لا يجهر بها ألا ترى أن قوله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} الآية هو من القرآن ومن استفتح به الصلاة لا يجهر به مع الجهر بسائر القراءة كذلك ما وصفنا قال أبو بكر وما ثبت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من إخفائها يدل على أنها ليست من الفاتحة إذ لو كانت منها لجهر بها كجهره بسائرها فإن احتج محتج بما روى نعيم المجمر أنه صلى وراء أبى هريرة فقرأ {بسم اللّه الرحمن الرحيم} ثم لما سلم قال إنى لأشبهكم صلاة برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وبما روى ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم: «كان يصلى في بيتها فيقرأ {بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين}»، وبما روى جابر الجعفي عن أبي الطفيل عن على وعمار أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم: «كان يجهر ب {بسم اللّه الرحمن الرحيم}».قيل له وأما حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة فلا دلالة فيه على الجهر بها لأنه إنما ذكر بها أنه قرأها ولم يقل أنه جهر بها وجائز أن لا يكون جهر بها وإن قرأها وكان علم الراوي بقراءتها أما من جهة أبى هريرة بإخباره إياه بذلك أو من جهة أنه سمعها لقربه منه وإن لم يجهر بها كما روى أن النبي عليه السلام كان يقرأ في الظهر والعصر ويسمعنا الآية أحيانا.ولا خلاف أنه لم يكن يجهر بها وقد روى عبد الواحد بن زياد قال حدثنا عمارة بن القعقاع قال حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير قال حدثنا أبو هريرة قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا نهض في الثانية استفتح ب {الحمد لله رب العالمين} ولم يسكت.وهذا يدل على أنه لم يكن عنده أنها من فاتحة الكتاب وإذا لم يكن منها لم يجهر بها لأن كل من لا يعدها آية منها لا يجهر بها وأما حديث أم سلمة فروى الليث عن عبد اللّه بن عبيد بن أبي مليكة عن معلى أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فنعتت قراءته مفسرة حرفا حرفا ففي هذا الخبر أنها نعتت قراءة النبي عليه السلام وليس فيه ذكر قراءتها في الصلاة ولا دلالة فيه على جهر ولا إخفاء لأن أكثر ما فيه أنه قرأها ونحن كذلك نقول أيضا ولكنه لا يجهر بها وجائز أن يكون النبي عليه السلام أخبرها بكيفية قراءته فأخبرت بذلك ويحتمل أن تكون سمعته يقرأ غير جاهر بها فسمعته لقربها منه ويدل عليه أنها ذكرت أنه كان يصلى في بيتها وهذه لم تكن صلاة فرض لأنه عليه السلام كان لا يصلى الفرض منفردا بل كان يصليها في جماعة وجائز عندنا للمنفرد والمتنفل أن يقرأ كيف شاء من جهر أو إخفاء وأما حديث جابر عن أبي الطفيل فإن جابرا ممن لا تثبت به حجة لأمور حكيت عنه تسقط روايته منها أنه كان يقول بالرجعة على ما حكى وكان يكذب في كثير مما يرويه وقد كذبه قوم من أئمة السلف وقد روى أبو وائل عن على رضي الله عنه أنه كان لا يجهر بها.ولو كان الجهر ثابتا عنده لما خالفه إلى غيره وعلى أنه لو تساوت الأخبار في الجهر والإخفاء عن النبي عليه السلام كان الإخفاء أولى من وجهين أحدهما ظهور عمل السلف بالإخفاء دون الجهر منهم أبو بكر وعمر وعلى وابن مسعود وابن المغفل وأنس بن مالك وقول إبراهيم الجهر بها بدعة إذ كان متى روى عن النبي عليه السلام خبران متضادان وظهر عمل السلف بأحدهما كان الذي ظهر عمل السلف به أولى بالإثبات والوجه الآخر أن الجهر بها لو كان ثابتا ورد النقل به مستفيضا متواترا كوروده في سائر القراءة فلما لم يرد النقل به من جهة التواتر علمنا أنه غير ثابت إذا الحاجة إلى معرفة مسنون الجهر بها كهي إلى معرفة مسنون الجهر في سائر فاتحة الكتاب فإن احتج بما حدثنا أبو العباس محمد ابن يعقوب الأصم قال حدثنا ربيع بن سليمان قال حدثنا الشافعي قال حدثنا إبراهيم بن محمد قال حدثني عبد اللّه بن عثمان بن حنتم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ {بسم اللّه الرحمن الرحيم} ولم يكبر إذا خفض وإذا رفع فناداه المهاجرون حين سلم والأنصار أى معاوية سرقت الصلاة أين {بسم اللّه الرحمن الرحيم} وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت فصلى بهم صلاة أخرى فقال فيها ذلك الذي عابوا عليه قال فقد عرف المهاجرون والأنصار الجهر بها قيل له لو كان ذلك كما ذكرت لعرفه أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وابن مسعود وابن المغفل وابن عباس ومن روينا عنهم الإخفاء دون الجهر ولكان هؤلاء أولى بعلمه لقوله عليه السلام: «ليلينى منكم أولوا الأحلام والنهى».وكان هؤلاء أقرب إليه في حال الصلاة من غيرهم من القول المجهولين الذين ذكرت وعلى أن ذلك ليس باستفاضة لأن الذي ذكرت من قول المهاجرين والأنصار إنما رويته من طريق الآحاد ومع ذلك فليس فيه ذكر الجهر وإنما فيه أنه لم يقرأ {بسم اللّه الرحمن الرحيم} ونحن أيضا ننكر ترك قراءتها وإنما كلامنا في الجهر والإخفاء أيهما أولى واللّه أعلم.
.فصل: الأحكام التي يتضمنها قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم: والأحكام التي يتضمنها قوله {بسم اللّه الرحمن الرحيم} الأمر باستفتاح الأمور للتبرك بذلك والتعظيم للّه عز وجل به وذكرها على الذبيحة وشعار وعلم من علام الدين وطرد الشيطان لأنه روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إذا سمى اللّه العبد على طعامه لم ينل منه الشيطان وإذا لم يسمه نال منه معه» وفيه إظهار مخالفة المشركين الذين يفتتحون أمورهم بذكر الأصنام أو غيرها من المخلوقين الذين كانوا يعبدونهم وهو مفزع للخائف ودلالة من قائله على انقطاعه إلى اللّه تعالى ولجأه إليه وأنس للسامع وإقرار بالألوهية واعتراف بالنعمة واستعانة باللّه تعالى وعياذة به وفيه اسمان من أسماء اللّه تعالى المخصوصة به لا يسمى بهما غيره وهما اللّه والرحمن..بَاب قِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ في الصلاة: قَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ الْأُولَيَيْنِ، فَإِنْ تَرَكَ قِرَاءَةَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَقَرَأَ غَيْرَهَا فَقَدْ أَسَاءَ، وَيُجْزِيهِ صَلَاتُهُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إذَا لَمْ يَقْرَأْ أُمَّ الْقُرْآنِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَعَادَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّ مَا يُجْزِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا حَرْفًا وَخَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ أَعَادَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ رِبْعِيٍّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَا تُجْزِي صَلَاة لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَتَيْنِ فَصَاعِدًا.وَرَوَى ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ الْجَرِيرِيِّ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: لَا تُجْزِي صَلَاة لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَتَيْنِ فَصَاعِدًا وَرَوَى مَعْمَر عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، قَالَ: اقْرَأْ مِنْهُ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَلَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْء قَلِيل وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ مَنْ نَسِيَ قِرَاءَةَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقَرَأَ غَيْرَهَا لَمْ يَضُرَّ، وَتُجْزِيهِ.وَرَوَى وَكِيع عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ يَحْيَى أَنَّ جَابِرَ بْن زَيْدٍ قَامَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ فَقَرَأَ: {مُدْهَامَّتَانِ} ثُمَّ رَكَعَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي أَنَّهَا لَا تُجْزِي إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَتَيْنِ مَحْمُول عَلَى جَوَازِ التَّمَامِ لَا عَلَى نَفْيِ الْأَصْلِ؛ إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِهَا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَحْدَهَا.وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا مَعَ تَرْكِ الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا، قوله تعالى: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وَمَعْنَاهُ قِرَاءَةُ الْفَجْرِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ فِي الْقِرَاءَةِ وَقْتَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَّا فِي الصَّلَاةِ؛ وَالْأَمْرُ عَلَى الْإِيجَابِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ النَّدْبِ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ جَوَازَهَا بِمَا قَرَأَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيص لِشَيْءٍ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ.وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} وَالْمُرَادُ بِهِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ بِدَلَالَةِ قوله تعالى: {إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ اللَّيْلِ} إلَى قَوْلِهِ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ أَنَّ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ فِي اللَّيْلِ.وقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} عُمُوم عِنْدَنَا فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهَا مِنْ النَّوَافِلِ وَالْفَرَائِضِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الصَّلَاةِ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ فِي: تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَاةَ حِينَ لَمْ يُحْسِنْهَا فَقَالَ لَهُ: «ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ».وَأَمْرُهُ بِذَلِكَ عِنْدَنَا إنَّمَا صَدَرَ عَنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّا مَتَى وَجَدْنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا يُوَاطِئُ حُكْمًا مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّهُ إنَّمَا حَكَم بِذَلِكَ عَنْ الْقُرْآنِ، كَقَطْعِهِ السَّارِقَ وَجَلْدِهِ الزَّانِيَ وَنَحْوِهَا ثُمَّ لَمْ يُخَصِّصْ نَفْلًا مِنْ فَرْضٍ فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ عَامّ فِي الْجَمِيعِ فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا بِغَيْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ عَامّ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ.وَالثَّانِي أَنَّهُ مُسْتَقِلّ بِنَفْسِهِ فِي جَوَازِهَا بِغَيْرِهَا، وَعَلَى أَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ فِي شَأْنِ صَلَاةِ اللَّيْلِ لَوْ لَمْ يُعَاضِدْهُ الْخَبَرُ لَمْ يَمْنَعْ لُزُومَ حُكْمِهَا فِي غَيْرِهَا مِنْ الْفَرَائِض وَالنَّوَافِلِ مِنْ وَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ فَسَائِرُ الصَّلَوَاتِ مِثْلُهَا، بِدَلَالَةِ أَنَّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ الْقِرَاءَةِ، وَأَنَّ مَا جَازَ فِي النَّفْلِ جَازَ فِي الْفَرْضِ مِثْلُهُ، كَمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَإِنْ قَالَ قَائِل: هُمَا مُخْتَلِفَانِ عِنْدَكَ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَك فِي الْفَرْضِ، وَهِيَ وَاجِبَة فِي النَّفْلِ إذَا صَلَّاهَا قِيلَ لَهُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَلَ آكَدُ فِي حُكْمِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الْفَرْضِ، فَإِذَا جَازَ النَّفَلُ مَعَ تَرْكِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَالْفَرْضُ أَحْرَى أَنْ يَجُوزَ.وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَمَنْ أَوْجَبَ فَرْضَ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي أَحَدِهِمَا أَوْجَبَهَا فِي الْآخَرِ، وَمَنْ أَسْقَطَ فَرْضَهَا فِي أَحَدِهِمَا أَسْقَطَهُ فِي الْآخَرِ فَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَنَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ جَوَازُ النَّفْلِ بِغَيْرِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْفَرْضِ فَإِنْ قَالَ قَائِل: فَمَا الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ تَرْكِهَا بِالْآيَةِ؟ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: اقْرَأْ مَا شِئْت أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِرَجُلِ: بِعْ عَبْدِي هَذَا بِمَا تَيَسَّرَ، أَنَّهُ مُخَيِّر لَهُ فِي بَيْعِهِ لَهُ بِمَا رَأَى.وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ لَمْ يَجُزْ لَنَا إسْقَاطُهُ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَسْخَ مَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ مِنْ التَّخْيِيرِ فَإِنْ قَالَ قَائِل: هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} وَوُجُوبُ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مَعَ وُقُوعِ الِاسْمِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ مَا يُهْدَى وَيُتَصَدَّقُ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَسْخُ الْآيَةِ.قِيلَ لَهُ: إنَّ خِيَارَهُ بَاقٍ فِي ذَبْحِهِ أَيُّهَا شَاءَ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ رَفْعُ حُكْمِهَا مِنْ التَّخْيِيرِ وَلَا نَسْخُهُ، وَإِنَّمَا فِيهِ التَّخْصِيصُ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا لَوْ وَرَدَ أَثَر فِي قِرَاءَةِ آيَةٍ دُونَ مَا هُوَ أَقَلَّ مِنْهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ نَسْخُ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ بَاقٍ فِي أَنْ يَقْرَأَ أَيُّهَا شَاءَ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ فَإِنْ قَالَ قَائِل: قَوْلُهُ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} يُسْتَعْمَلُ فِيمَا عَدَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ نَسْخ لَهَا، قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ عِبَارَةً عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِبَادَةً إلَّا وَهِيَ مِنْ أَرْكَانِهَا الَّتِي لَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا.الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ فِي جَمِيعِ مَا يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوز تَخْصِيصُهُ فِي بَعْضِ مَا يُقْرَأْ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا.الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} أَمْر، وَحَقِيقَتُهُ وَمُقْتَضَاهُ الْوَاجِبُ، فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى النَّدْبِ مِنْ الْقِرَاءَةِ دُونَ الْوَاجِبِ مِنْهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ عَنْ عُمَرَ،: «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى كَمَا كَانَ يُصَلِّي ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّهُ لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرَ وَيَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأَ بِمَا شَاءَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَرْكَعَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.وحدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،: «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ»، وَذَكَرَ نَحْوَهُ، ثُمَّ قَالَ: «إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: «ثُمَّ اقْرَأْ مَا شِئْت» وَفِي الثَّانِي: «مَا تَيَسَّرَ» فَخَيَّرَهُ فِي الْقِرَاءَةِ بِمَا شَاءَ.
|